هل يمكننا إعادة النظر بالفكرة القائلة بضرورة احترام الرأي الآخر بلا قيد أو شرط؟ بالطبع يمكن لأنّ هذا الشعار ذاته يفرض على أهله احترام رأينا الآخر في الفكرة، الفكرة التي لا ينتج منها سوى الإقرار بغياب الحقيقة، ورأيناه شعاراً لا يرفعه دوماً إلا أولئك الذين يعاملون الأفكار كلها ببرود شديد حيث تمثل عندهم اطروحات معروضة للاستهلاك حسب الذوق والحاجة.
أليس معنى احترامي للرأي الآخر دوماً وبلا شرط أنني احترم الرأي الخاطئ والصحيح سواءً وأني أعاملهما على قدم المساواة من الاحترام؟
وحينما نقول لا بدّ من عرض آراءنا وأفكارنا على أسس ومبادئ ثابتة لكي نعرف الصحيح من السقيم ونحترم الرأي الأصوب ونرفض الرأي الخاطئ ينبري البعض بالقول : أن المبادئ والأسس نفسها هي آراء من الآراء وان مثلها مثل التمثال الذي نصفه اسود ونصفه ابيض وجاء رجلان فرأى كلّ منهما الوجه المقابل له فاختلفا وتخاصما.. ولكن الحقيقة أن كلّ منهما محق لأنه رأى الوجه الذي يقابله دون الآخر. وقد لا يمر أسبوع إلا وأسمعه من أحدهم. عجباً لكثرة المتفقين المولعين بهذا المثل الذي ضربه قوم لا يريدون الفرز والتمييز بين الأوراق وتشبث به آخرون بلا روية حتى ذكره ودافع عنه عالم اجتماعي عراقي (مع كلّ الأسف) هو الدكتور علي الوردي في كتابه اللمحات.
وأنبه من يهمه الأمر إلى الخطأ الجسيم في عناصر هذا المثل والناتج العقيم المزعوم منه فانه ومع الاعتذار لكلّ الذين يحبون هذا المثل لا ينتج منه أن كلّ واحد من الرجلين محق في ما رآه! بل الناتج أن كلّ منهما أحمق وغبي إلى أبعد حدٍّ لأنه وصف التمثال كله ولم ير إلا جهةً واحدةً منه وحينما يقول هذا الدكتور : ( أن حقيقة التمثال تثبت صحة رأي كلّ منهما) ـ نقول: آسفون جداً فإن حقيقة التمثال تثبت خطأ كلّ منهما بل وتثبت أن كلّ منهما شخص أناني يريد فرض رأيه على صاحبه ولم يكمل بعد فحص التمثال جيداً ولا اقترب من صاحبه ليرى الوجه الآخر، وبالتالي فإن الحق مع الشخص الثالث _ إن وجد ثالث ـ الذي يدرك أن حقيقة التمثال أنه بوجهين فلا هو أسود ولا أبيض!!.
تصوّر إذن مدى الذهول عن عناصر المثل حينما يدافع ضارب المثل عن الرجلين الأبلهين وهو الذي يعلم حقيقته من دونهما!!
وعلى ذلك فالتحدي قائم في الإتيان بمثل آخر تنتج منه تلك الضرورة المزعومة في احترام كلّ الآراء وغياب الحقيقة.
ومن جهة أخرى لا أحسبني بحاجةٍ إلى ذكر مئات الشواهد على ضرورة احترام الرأي الصائب. وسأكتفي بقول حكيم الحكماء سيدنا علي بن أبي طالب (ع) حيث يقول : (ما اختلفت دعوتان إلا كانت إحداهما ضلالة) / شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد/ج5/باب ما جرى من كلامه (ع) مجرى الأمثال.
ولا تحسب أن الثانية لا بدّ أن تكون على هدى فالعبارة لا تفيد ذلك بل تفيد أن إحداهما ضلالة حتماً، فقد تكون الثانية مثلها وقد تكون عكسها.. لأنّ الخطأ قد يختلف مع بعضه البعض بعكس الصحيح الذي يقوي بعضه بعضاً ويكشف صدق بعضه البعض. بل تقول العبارة أنّه إذا اختلفت الآراء فإن بعضها خاطئ ولا تقول أنها جميعاً محترمة.
إذن لنرفع في ميدان الثقافة شعار احترام الرأي الأصوب. والفاضل هو الذي إذا بان خطأه لا يغضب وليس الفاضل هو الذي يحترم الآراء الخاطئة.