لشيخ بسام حسين
*****
تمهيد
ليس خفياً على أحد ما يوليه أتباع مدرسة أهل البيت من اهتمام بزيارة قبور النبي(ص) والأئمة من أهل بيته(ع)، وخصوصاً قبر سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين(ع). فقد دأبوا منذ يوم استشهاده إلى يومنا هذا على المواظبة على زيارته، وبذل الغالي والنفيس في سبيل الوصول إلى مرقده الطاهر. فقصده القاصي والداني والصغير والكبير والسليم والسقيم. لم يمنعهم تعب ولا نصب، ولم يصدهم خوف أو وجل. ولم تَحُل دونهم الأعذار والأخطار على مرِّ الأعوام والأعصار.
والتاريخ مليء بالقصص والروايات التي تحدثت عن محنة هؤلاء ومعاناتهم، وما أصابهم من ظلم واضطهاد جراء زيارتهم لقبر الحسين(ع)، ممّا لا مجال لسرده واستقصائه ها هنا.
وقد تركّز الاهتمام بالزيارة في أوقات ومواسم خاصة، كيوم عرفة، ويوم العاشر من المحرم، والنصف من شعبان، وغيرها من المناسبات الأخرى التي أرشد إليها أئمة أهل البيت(عليهم السلام).
•العشرون من صفر
ومن تلك المناسبات المعروفة «زيارة الأربعين» يوم العشرين من صفر لأربعين يوماً من مقتله الشريف(ع).
فقد واظب محبوه على زيارته في هذا اليوم، وجرت سيرتهم جيلاً بعد جيل على قصد حرمه الشريف فيه، يجتمعون هناك مجددين للحزن والبكاء، آمّين قبره الشريف يطوفون حول ذلك النور الذي أخرج الله تعالى ببركته الناس من الظلمات إلى النور.
يقول العلامة الخطيب السيد جواد شبَّر:
«يوم أربعين الحسين(ع) وهو يوم العشرين من صفر، من أضخم المؤتمرات الإسلامية. يجتمع الناس فيه كاجتماعهم في مكة المكرمة. تلتقي هناك سائر الفئات من مختلف العناصر، ويعتنق شمال العراق بجنوبه، والوفود من بعض الأقطار الإسلامية، فهذا يردد أنشودته باللغة العربية، وذلك باللغة التركية وثالث بالفارسية، ورابع باللغة الأوردية، وهكذا....»(1).
وفي هذا السياق أيضاً، يقول العلامة الحجة السيد هبة الدين الشهرستاني:
«... تلبس مدن العتبات المقدسة في العراق وإيران والمساجد المهمة والأماكن المتبركة في الهند والباكستان وغيرها من الأقطار والمناطق... حلة من السواد كشعار للحزن والحداد... وتبتعد عن مظاهر الزينة والبهرجة ومباعث الأنس والانشراح... هذه هي الحالة في العشرة الأولى من شهر محرم الحرام عند المسلمين بالنسبة لهذه الذكرى، إن لم يكن الشهر كله من كل عام، ومن الأقطار الإسلامية كالعراق وإيران والهند والباكستان إلى ما بعد العشرين من صفر، حيث تستكمل هذه الذكرى يومها الأربعين، ولها زيارتها الخاصة ومراسيمها المختصة في كربلاء بالعراق... حيث يؤمها أكثر من مليون زائر في يوم واحد لزيارة قبر الحسين(ع) والطواف حول ضريحه في ذكرى أربعينه... وتطوف المواكب الزاخرة حول مشهده لليمن والبركة»(2).
وفي هذه الأيام يجتمع في كل عام من البلاد والأقطار المختلفة ملايين المحبين والموالين، لزيارته في هذا اليوم، تضيق بهم شوارع المدينة وأزقتها، على الرغم من القتل والتفجير والإجرام المستمر على هذا الشعب المظلوم.
•زيارة الأربعين من علامات المؤمن
وقد ترسخت هذه الزيارة عند الإمامية، حتى باتت من العلامات التي يعرف بها المؤمن في كل زمان..
فقد روي عن أبي الحسن العسكري(ع) أنه قال: «علامات المؤمن خمس: صلاة إحدى وخمسين، وزيارة الأربعين، والتختم في اليمين، وتعفير الجبين، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم»(3).
•لماذا زيارة الأربعين؟
ولعل سائلاً يسأل عن سبب هذه الزيارة في هذا اليوم، والسر الذي رجَّح زيارته(ع) بعد أربعين يوماً من استشهاده.
وفي الحقيقة، فإن الجواب عن هذا الموضوع لا بد فيه من الرجوع إلى الروايات والنصوص لكي نرى ما إذا كانت قد تعرضت إلى سبب ذلك أو أشارت إليه، خصوصاً وأن هذا العدد وهو عدد الأربعين يحمل خصوصية مميَّزة في الآيات والروايات، حيث جاء في القرآن الكريم مثلاً أن ميقات موسى كان أربعين ليلة، والسن التي يبلغ بها الإنسان أشده أربعون سنة وهكذا...
فهل هناك خصوصية في أربعين الإمام الحسين(ع) أيضاً جاء ذكرها في الروايات؟
ما نستطيع قوله ها هنا هو ما أشارت إليه الروايات في هذا المجال:
منها ما روي من أن الأرض تبكي على المؤمن أربعين يوماً.
ومنها ما رواه الفريقان الشيعة والسنة، من أن السماء بكت على الحسين(ع) أربعين يوماً(4).
•الأبعاد والدلالات:
وأما فيما يتعلق بالأبعاد التاريخية لهذه المناسبة فيمكن ربطها بأحد هذه الأمور، أو هي مجتمعة:
الأمر الأول: مجيء جابر بن عبد الله الأنصاري (رحمه الله) الصحابي الجليل لزيارة قبر الحسين(ع) في مثل هذا اليوم، قادماً من المدينة إلى كربلاء، فكان أول من زاره من المسلمين.
وفي بشارة المصطفى بسنده عن الأعمش، عن عطية العوفي قال: «خرجت مع جابر بن عبد الله الأنصاري(رحمه الله) زائرين قبر الحسين بن علي بن أبي طالب، فلما وردنا كربلا، دنا جابر من شاطىء الفرات فاغتسل ثم اتّزر بإزار وارتدى بآخر، ثم فتح صُرّة فيها سعد فنثرها على بدنه، ثم لم يخطُ خطوة إلا ذكر الله تعالى، حتى إذا دنا من القبر قال: ألمسنيه، فألمسته، فخرَّ على القبر مغشياً عليه، فرششت عليه شيئاً من الماء، فلما أفاق قال: يا حسين ثلاثاً، ثم قال: حبيب لا يجيب حبيبه. ثم قال: وأنّى لك بالجواب وقد شحطت أوداجك على أثباجك وفُرِّق بين بدنك ورأسك..!؟» إلى آخر ما جاء في الخبر(5).
الأمر الثاني: رجوع الإمام زين العابدين(ع) مع حرم آل البيت(عليهم السلام) من الشام قاصدين المدينة، ومرورهم على كربلاء لزيارة الحسين(ع).
قال ابن طاووس: «قال الراوي: لما رجع نساء الحسين(ع) وعياله من الشام وبلغوا العراق قالوا للدليل: مرّ بنا على كربلاء، فوصلوا إلى موضع المصرع، فوجدوا جابر بن عبد الله الأنصاري(رحمه الله) وجماعة من بني هاشم ورجالاً من آل رسول الله(ص) قد وردوا لزيارة قبر الحسين(ع) فوافوا في وقت واحد وتلاقوا بالبكاء والحزن واللطم وأقاموا المآتم المقرِّحة للأكباد، واجتمع إليهم نساء ذلك السواد فأقاموا على ذلك أياماً»(6).
الأمر الثالث: ردّ رأس الحسين(ع) وإلحاقه ببدنه الشريف في مثل هذا اليوم.
وهذا الأمر ـ وإن وقع فيه الخلاف بين المؤرخين ـ إلا أن المعتمد عليه من الأقوال عند الإمامية فيه أن الرأس رُدّ إلى بدنه الشريف بعد أن طيف به في البلاد.
قال ابن طاووس: «وكان عمل الطائفة على هذا المعنى»(7)...
وفي المناقب: «ذكر المرتضى في بعض رسائله أن رأس الحسين أعيد إلى بدنه في كربلاء، وقال الطوسي: ومنه زيارة الأربعين»(
.
وقال أبو ريحان البيروني في الآثار الباقية: في العشرين من صفر ردّ رأس الحسين إلى جثته حتى دفن مع جثته.
وروى الشيخ الصدوق بسنده عن فاطمة بنت علي (صلوات الله عليهما): «... وأبصر الناس الشمس على الحيطان حمراء كأنها الملاحف المعصفرة، إلى أن خرج علي بن الحسين(عليهما السلام) بالنسوة، ورد رأس الحسين(ع) إلى كربلاء»(9).
وعن بعضهم وقد سئل عن موضع رأس الحسين(ع):
لا تطلبوا رأس الحسين
بشرق أرض أو بغرب
ودعوا الجميع وعرجوا
نحوي فمشهده بقلبي
الهوامش:
(1) جواد شبر: أدب الطف، ج1، ص41.
(2) هبة الدين الشهرستاني: نهضة الحسين (ع)، ص118.
(3) نقل هذا الحديث جملة من الأعلام: منهم الطوسي في مصباح المتهجد، ص788، وتهذيب الأحكام، ج6، ص52.
(4) انظر: ابن قولويه: كامل الزيارات، ص182.
(5) محمد بن علي الطبري: بشارة المصطفى، ص125.
(6) ابن طاووس: اللهوف على قتلى الطفوف، ص114.
(7) المصدر السابق.
(
ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب، ج3، ص231.
(9) ابن بابويه القمي الصدوق: الأمالي، ص231.
للأمانة منقول
ا